السبت، 4 يونيو 2011

الفن العراقي

فيما كان العراق يشرف على منعطف بالغ الأهمية في تاريخه أثر قيام الحرب العالمية الثانية, كان الفن العراقي يمر بفترة ارهاص شديدة القسوة والعمق, من خصائصه أن تجاوب مع ايقاعه الفنانون المبدعون من ذلك الجيل الذي كان يسمع عن قرب نبض الحياة , ويعرف في اي الدروب تمر شرايين المجتمع واعصابه المشدودة. دللت حركة الفن التشكيلي العراقي على حيوية فريدة في تفاعلها الذاتي وفاعليتها الاجتماعية , فلقد كان لهاثها يسمع في صدر الثقافة الوطنية عاليا. فالحرب, بكل تداعياتها, أضافت وضاعفت المؤثرات في حركة الفن...ومن ابرزها " التوجه الى الفن الحديث من جهة, والبحث عن شخصية وطنية من جهة اخرى ". لقد شكل اكتشاف الفن الحديث – الانطباعية تحديدا – انعطافا حادا في حياة الرسم ونشاط الفنانين الذاتي, وفي مسيرة الفن عموما. لربما تم هذا الاكتشاف " صدفة " كما يقال عن طريق لقاء الفنانين العراقيين الشباب ببعض الفنانين البولونيين في احدى قاعات العرض في شباط 1942 في بغداد ... والذي شكل على حد تعبير النقد السائد "بداية المرحلة الهامة الاولى في حركة الفن العراقي الجديد". لكنه في تلك المناسبة "السعيدة" في حياة الرسم العراقي ولدت أكبر عقدة واجهت الفنان في مسيرته الفنية , نمت وتطورت مع تطوره , هي عقدة البحث عن معادل وطني لأساليب الغرب الفنية ..معضلة صهر حضارة اوربية متكاملة ببوتقة ثقافة محلية في طور التأسيس. باعتماد صريح على النفس, أقدم الفنان العراقي على مغامرة الحداثة محمولا على تيار التجديد الذي جرف الثقافة العراقية الى مديات شاسعة, بتجربته الذاتية الصغيرة "بلا خبرات ترفد بحثه" انما بثقة مطلقة بأهمية ما يقدم عليه " فخضعت اكتشافاتهم الأولى الى طيش التجارب التي ألهبت ظهورهم ". في 1944 كتب جواد سليم يؤكد الحالة ذاتها .." كانوا قلائل تحدق بهم المصاعب من كل جانب في عملهم الابداعي, وتهيئة الجمهور للفهم والتذوق. أما عملهم, فبصفتهم البعث الأول منذ خمسة قرون, كانت محاولاتهم صعبة وهم يهيئون الأسس للأجيال الشابة القادمة .." بفعل حماسة التجديد أفلحت التجارب البسيطة التي أقدم عليها الفنانون آنذاك, في اشاعة روح البحث في معطيات الحياة العراقية, تراثها وملامحها, لكن تجاربهم هذه أرست بهم الى ضفاف فقيرة نبهتهم الى أن زادهم لمواجهة مفازة الفن الحديث المترامية الآفاق كان ضئيلا الأمر الذي دفع أغلبهم الى السفر نحو المصدر الأم للفن الحديث, اوربا, للتزود بما كان ينقصهم من معارف وتقنيات. توجه أغلبهم, تقريبا,الى بلدان اوربية مختلفة بعد الحرب مباشرة, أمثال ( جواد سليم, نزيهة سليم, أكرم شكري, اسماعيل الشيخلي, خالد الرحال, جميل حمودي, خالد الجادر ....) الفنان العراقي وهو يواجه هذه المعضلة حدد مهمته التاريخية: تأسيس فن وطني, كما يراها الباحث " سهيل سامي نادر" , فراح يبحث عن ينابيع البيئة المحلية, وفي أروقة التراث كقاعدة لتجربته الابداعية. من جانبها وفرت البيئة العراقية بمواضيعها وقيمها الروحية وجمالياتها التشكيلية, مضامين غنية أثرت اللوحة وبرهنت على صواب نتائج البحث, فراح كل واحد منهم يختبر قدراته على أساس قدرات هذه البيئة على الاستجابة التشكيلية. على أرضية هذا الواقع يقف أمامنا, بوضوح تام, الفنان جواد سليم بحساسيتة المرهفة ازاء الحياة, وقلقه العميق ازاء نفسه, ولوعته ازاء الرسم. تشهد أعماله الابداعية التي خلفها, وما تقوله الوثائق "الرسمية" أنه كان مهوسا بنزعة الحداثة يفتش عن حلول جمالية لمشاكل الرسم في ركام حضارات وادي الرافدين القديمة, التي عايشها في المتحف العراقي خلال عمله في ترميم الأثار, وفي الحياة الاجتماعية عن ما هو مألوف بين الناس وأصبح تقليدا ذو عراقة, أو يفتش عنه في المتوارث من رموز الحكايات والخرافات الشعبية. جواد سليم لم يسمح للبحث الجمالي المجرد ان يكون همه الوحيد المهيمن على تجربته الفنية, بل أخضع الهم الجمالي لمتطلبات تجربته الفنية المنسجمة في روحها مع التجربة الاجتماعية ذاتها مما ساهم في بلورة الطابع الوطني في فنه . لقد حقق جواد سليم ذلك عمليا, فأعماله المكرسة للحياة الشعبية والمستوحات من القصص الشعبي وحكايات ألف ليلة وليلة, والتي اسماها " بغداديات " والمفعمة بروح الواسطي والزخرفة الاسلامية والأقواس والأهلة ....تستند في بنائها على مقومات اللوحة الأسلامية ورموزها الفكرية . فيها من الفن المغولي ما يذكرنا بالشرق أكثرمما يذكرنا ببغداد ويعيدنا الى ثقافة القرون الوسطى ممجدا الغرف واسرارها. ان الموضوع الشعبي في فهم جواد سليم هو وسيلة لاثبات أصالة الفنان والمحتوى الاجتماعي للفن ودلالته الوطنية. لتعميق هذه الأصالة بحث جواد في معطيات فنون وادي الرافدين والفنون الاسلامية التي استعار منها القيم التشكيلية الأكثر رهافة, موسعا بصيرته لتصوير الحياة الواقعية المحيطة به, والتي حصل على خبرته المباشرة من خلال التفاعل معها بعقله وعواطفه وباحتكاكه المباشر بها. ربط جواد تجربته الابداعية بالعملية الاجتماعية التي أساسها موضوع العمل وتقاليد الشعب . ان بحث جواد سليم المستمر في مجال الأشكال والمضامين الشعبية وجد انعكاساته في اعمال كثيرة ذات موضوعات انطوت على رموز انسانية لفقراء البلاد وكادحيها, مبرهنا بذلك على ان الحداثة لا تلغي الواقع الاجتماعي بل تصعد من تعبيريتة وتغني محتواه الجمالي. قدم جواد نماذج من فقراء العراق وشغيلته امثال منحوتاته " الانسان والأرض 1955 " " امرأة وثور" " البنّاء 1944 " " فلاح من الجنوب " وتخطيطاته "أطفال في الطريق 1944" "الملاريا 1941" " الطفل الميت1947 " وغيرها من الأعمال المفعمة بروائح الشوارع البغدادية وطعم الأرض وشفافية العلاقة مع الطبيعة وتقاليد الحياة الزاعية. لقد استهدف جواد تجسيد الصلابة الروحية للكادحين برسمه لهم وهم يكدحون , أو يتعرضون للبلايا. لقد أدرك منذ شبابه المبكر – منذ ان نحت رليف " البنّاء " – أن العمل وحده قادر على أن يملأ نماذجه البشرية بالثقة والقوة المعنوية. ان الغنى الانساني لأعماله يتأتى من غنى مواضيع العمل التي رسمها وغنى شعبية النماذج التي اختارها للرسم ( امهات, أطفال نصف عراة, عمال, فلاحين وامراض فتّاكة). فيها بلور الفنان مفاهيمه في الوجود ونظرته الى المستقبل كما يراها ويقولها " حب الحياة والكفاح في سبيل النظام الطبيعي ". خلف لنا جواد مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية لمراحل من حياته الخاصة تنطوي على نماذج شعبية اختارها بود كبير ليتصور معها .. صناع صغار, رجال ليسوا ذوي حظوة أو مركز اجتماعي, بسطاء يشكلون بحق مواضيع للصدق والوفاء والطيبة التي كان يجلها أكبر اجلال. في عام 1944, عندما كان في الخامسة والعشرين, نحت رليف " البنّاء " وهو أول عمل كبير له مجد فيه أول وأهم مهنة مارسها الانسان- البناء- ومن أعرقها في وادي الرافدين والتي ارتبطت بها أقدم حضاراته, فالى جانب المعنى الفلسفي لموضوع البناء, استهدف جواد المعنى التشكيلي فيه فجسد البنّاء يملأ كل مساحة الرليف بينما شغل الصنّاع الصغار ما تبقى منها..وهذا نصيبهم في الحياة. في مذكراته التي كتبها عن تجربته في نحت الرليف يشير الى عمق مشاعر الود التي كان يكنها للنماذج الشعبية, واعجابه الشديد بقوتهم , يقول : "أعجبني شكله, وما رافقه من الصور والحركة والحياة واهتمامه بعمله وتأكده منه " غير ان جواد لم تأخذه مشاهدة "الاسطة " عن مراقبة الصنّاع الصغار " أراهم بوجوههم الحمراء المفعمة المكسوة برذاذ الجص.." , وفي طرف اخر يرى " العمال المرذولين المساكين الذين يأكلهم المرض والجوع والبؤس.. الذين لا عمل لهم ". من هؤلاء وحدهم كان الفنان ينتظر تزكية ابداعه ومباركته. يسترسل جواد في يومياته... " أهم يهنئة وأعمق مديح حصلته في حياتي هو عنما تسلق البناؤون المجاورون للمعهد – يقصد معهد الفنون الجميلة – ومعهم الصنّاع لمشاهدتها واعجبوا بها كل الاعجاب" ...في المنحوتة رقة فرعونية يحملها اسلوب الحفر الفرعوني الذي اعتمده الفنان. " انسان " جواد سليم, في كل اعماله قاطبة, يمتلك الطبيعة ويعكس في امتلاكه هذا الوعي الجمالي للفنان نفسه, فالعلاقات التشكيلية في اعماله هي قرين للعلاقات الاجتماعية بالواقع. انه ينظر الى مواضيع الرسم بنفس الحب الذي يرى فيه تقاليد الشعب المحببة الى قلبه حيث تذوب رموز الحياة في وجدانه . من حياة العراقيين اغترف جواد سليم المحبة والطيبة والفرح الدفين واكتنزها في لوحاته. في لوحته " بغداديات ولوري " يصور لوري يدخل شارعا ضيقا.. هكذا ببساطة!! للوهلة الاولى ترى الشارع والبيوت كلها تكاد تركب الحافلة الملونة , وكذلك يفعل الأطفال المشاكسون , أما اللوحة ذاتها فتكاد تنفجر من الفرح والدهشة . يندر في تاريخ الفن العراقي فنان فكر وحلم ببغداد ورسم لها مثلما فعل جواد سليم. تراه أحيانا يتعامل معها كما يتعامل مع عجوز ضريرة يضع بين يديها ما فقدته في طريقها... وأحيانا مثل طفلة أهملها الكبار يضعها على كتفه ويركض بها حتى تغص بالضحك , وأحينا مثل ام رؤوم ينام في حضنها وهو يحلم بالعدالة. لقد أخذ جواد من بغداد كل ما هو آيل للسقوط, مألوف حد الاهمال, فأسنده على دعائم جمالية من روحه فأخذت المدينة تستعيد في فنه صحتها شيئا فشيئا, أقامت أعراسها واجتذبت طبول الفرح في الطرقات, الأطفال والصبايا. عشرات الناس, آكلي الرقي, تضيع ملامحهم في غبار الحياة اليومية وحركة الناس.. أما في لوحة " صبيان يأكلان الرقي " فأن الصيف يستعيد جفافه وضياء الشمس الشرسة يأكل متعة النظر الطويل للأشياء..حدود الوانه خشنة ويابسة تعرضت طويلا للعطش. أعاد جواد سليم لجماليات بغداد التي ألقت بها الحياة على هامشها نبضها الاجتماعي. ربطها من جديد بشريان نموها الطبيعي, بعلاقات جديدة مع الواقع الحي . الأهلة التي ظلت منذ ولادتها تسبح في سماء الله قطفها جواد ووضعها في أيدي الصبيان أشيافا من الرقي يأكولونها, وللنسوة رداء بدل العباءة .. الزخارف التي أغلقت عليها نوافذ الباشوات رحا من الزمن، ربطها الفنان بخيط طويل وأطلقها في سماء اللوحة طائرات من ورق, لوحة " أطفال يلعبون 1957 ". مأثرة جواد انه وضع رموز الماضي في مناخ اجتماعي معاش كانت تزخر به اللّوحة. لم تكن الرموز لديه تشير الى نفسها فقط , انما ساهمت في احياء الحاضر واغنائه , وضمن شروط الحاضر هذا, الذي استأثرت فيه الحداثة. لدى جواد سليم استعادت الرموز دلالاتها الجمالية وأهميتها التاريخية مجددا, وبرهنت على ديمومتها وقدرتها على معايشة الواقع بسهولة. لقد أعاد جواد , بفعلها, الاعتبار لتواريخ منسية, ولثقافة شعبية لا غنى للثقافة الوطنية عنها. استعمل الفنان رموز التاريخ من خلال لغة تشكيلية سلسة ساهمت في تعريف الرموز ذاتها, مما صعد في دلالاتها مناسيب الاحساس الانساني الصادق. لقد استأثرت المدينة بروح جواد سليم, واستقرت في نقطة بعيدة في أعماقه منذ حياته الفنية المبكرة, وقد جاء اكتشافه لرسوم الواسطي / البغدادي بعدا جديدا ضاعف لديه احساسه ببغداديته, وبخصائص المدينة الشعبية وتقاليدها. ثمة أمر هام في فن جواد سليم أنه رسم بغداد أكثر مما نحتها ... فالرسم يعود به دائما الى شوارعها وبيوتها ونسائها وأطفالها ومراراتها... في مقتبل حياته الفنية, وبقلم خشن رسم أولى تخطيطاته لأطفال في الشوارع المسكونة بالذباب والروائح العطنة, رسم امهات ثكلى, موتى وفقراء عراة. تخطيطات مرسومة بغضب شديد كما لو أنها رسمت بأنياب لا بريشة حبر.. نفس الموضوعات التي كانت تشير للنقطة البعيدة التي تطور اليها فن جواد فيما بعد والتي وجدت مكانها التاريخي في " نصب الحرية ". يشكل نصب الحرية الذروة التي بلغها فن جواد سليم والمأثرة التاريخية التي لم يأت بمثلها فنان عراقي منذ قرون. انه عمل استوعب أعمق مفاهيم الفنان وأفكاره في الحياة والفن, والتي شغلته منذ وقت طويل, فربط فنه الواقعي بالناس الذين شغله أمر العلاقة بهم " والاتيان بالقدرة على مخاطبة الجماهير بصورة مباشرة " كما كان يقول قبل أن يضع الخط الأول للنصب. هياكل البشر البسيطة والقوية في النصب ذات ديناميكية حادة مليئة بالحركة: الوثوب, الانطواء, السقوط, الاقتحام , الاستقرار... حملها الفنان أبرز خصائص التاريخ الاجتماعي في مراحله المتعاقبة, وضمنها أجمل حركات الجسد وهو يقوم بنشاطه ويمارس عواطفه الانسانية بصدق ومأساوية عالية. في كل ما رسم جواد سليم ونحت نلمس كم تمعن هذا الفنان بتفاصيل البلاد, تفاصيل الناس, في ثنايا روحه كان يخبئ مشاهد المدينة ونماذجها الشعبية التي سحرته طرافتها, قوتها وطيبتها . كلهم أطلوا, شخصيات رئيسية أم ثانوية, من أعماله على حياتنا يقولون لنا كلمة واحدة " الحياة " أكثر وضوحا من توقيع الفنان. اذا كان " شيلر " يرى انه لا يحيا في الفن الا ما يموت في الحياة, فجواد سليم يرى العكس تماما, ان ما يحيا في الحياة هو فقط القادر على الحياة في الفن . الصفحة:

ليست هناك تعليقات: